كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثُمَّ قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} قَالَ فِي الْأَسَاسِ: مَحَّصَ الشَّيْءَ مَحْصًا وَمَحَّصَهُ تَمْحِيصًا خَلَّصَهُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَمَحَّصَ الذَّهَبَ بِالنَّارِ خَلَّصَهُ مِمَّا يَشُوبُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْمَجَازِ مَحَّصَ اللهُ التَّائِبَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمَحَّصَ قَلْبَهُ وَتَمَحَّصَتْ ذُنُوبُهُ وَتَمَحَّصَتِ الظَّلْمَاءُ تَكَشَّفَتْ قَالَ:
حَتَّى بَدَتْ قَمْرَاؤُهُ وَتَمَحَّصَتْ ** ظَلْمَاؤُهُ وَرأى الطَّرِيقَ الْمُبْصَرِ

أَقُولُ: وَأَصْلُ الْمَحْقِ النُّقْصَانُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ وَمِنْهُ الْمِحَاقُ لِآخِرِ الشَّهْرِ، وَقَالَ فِي الْأَسَاسِ: مَحَقَ الشَّيْءَ مَحَاهُ وَذَهَبَ بِهِ.. وَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا يُحْسِنُ الْإِنْسَانُ عَمَلَهُ: قَدْ مَحَقَهُ، وَيَقُولُونَ لِلْهَلَكَةِ: الْمَحْقَةُ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ تَمْحِيصَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْفِيرِ ذُنُوبِهِمْ وَمَحْوِ سَيِّئَاتِهِمْ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالتَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ تَفْسِيرُ التَّمْحِيصِ بِالِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ. وَكَأَنَّهُ بَيَانٌ لِمَبْدَئِهِ دُونَ غَايَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُمَحِّصُ اللهُ بِالْمَصَائِبِ ذُنُوبَ الْمُؤْمِنِينَ وَبِمَحْقِ نُفُوسِ الْكَافِرِينَ. وَرَدَّ الْأُسْتَاذُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ التَّمْحِيصَ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنَ الْقُرْآنِ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالتَّكْفِيرِ، وَأَنَّ لِلتَّمْحِيصِ هُنَا مَعْنًى آخَرَ يَتَّفِقُ مَعَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي جُمْلَتِهِ لَا فِي تَصْوِيرِهِ. وَصَوَّرَهُ هُوَ بِنَحْوِ مَا يَأْتِي:
كُلُّ إِنْسَانٍ يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ فِي نَفْسِهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ يُصَدِّقُهُ فِيهَا الْحَقُّ الْوَاقِعُ أَوْ يُكَذِّبُهُ، فَالْمُعْتَقِدُ حَقِّيَّةَ الدِّينِ قَدْ يَتَصَوَّرُ وَقْتَ الرَّخَاءِ أنه يَسْهُلُ عَلَيْهِ بَذْلَ مَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِيَحْفَظَ شَرَفَ دِينِهِ وَيَدْفَعَ عَنْهُ كَيْدَ الْمُعْتَدِينَ، فَإِذَا جَاءَ الْبَأْسُ ظَهَرَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ خِلَافُ مَا كَانَ يَتَصَوَّرُ (وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ آنِفًا). فَالْإِنْسَانُ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ أَمْرُ نَفْسِهِ فَلَا يَتَجَلَّى كَمَالَ التَّجَلِّي إِلَّا بِالتَّجَارِبِ الْكَثِيرَةِ وَالِامْتِحَانِ بِالشَّدَائِدِ الْعَظِيمَةِ، فَالتَّجَارِبُ وَالشَّدَائِدُ كَتَمْحِيصِ الذَّهَبِ يَظْهَرُ بِهِ زَيْفُهُ وَنُضَارُهُ. ثُمَّ إِنَّهَا أيضا تَنْفِي خَبَثَهُ وَزَغَلَهُ. كَذَلِكَ كَانَ الأمر فِي أُحُدٍ: تَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَتَطَهَّرَتْ نُفُوسُ بَعْضِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُدُورَتِهَا فَصَارَتْ تِبْرًا خَالِصًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَمِعُوا فِي الْغَنِيمَةِ، وَالَّذِينَ انْهَزَمُوا وَوَلَّوْا وَهُمْ مُدْبِرُونَ، مَحَّصَ الْجَمِيعَ بِتِلْكَ الشِّدَّةِ فَعَلِمُوا أَنَّ الْمُسْلِمَ مَا خُلِقَ لِيَلْهُوَ وَيَلْعَبَ، وَلَا لِيَكْسَلَ وَيَتَوَاكَلَ، وَلَا لِيَنَالَ الظَّفَرَ وَالسِّيَادَةَ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَتَبْدِيلِ سُنَنِ اللهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بَلْ خُلِقَ لِيَكُونَ أَكْثَرَ النَّاسِ جِدًّا فِي الْعَمَلِ، وَأَشَدَّهُمْ مُحَافَظَةً عَلَى النَّوَامِيسِ وَالسُّنَنِ.
أَقُولُ: وَقَدْ تَجَلَّى أَثَرُ هَذَا التَّمْحِيصِ أَكْمَلَ التَّجَلِّي فِي غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ إِذْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَلَّا يَتْبَعَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ بِأُحُدٍ، فَامْتَثَلُوا الأمر بِقُلُوبٍ مُطْمَئِنَّةٍ وَعَزَائِمَ شَدِيدَةٍ وَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَبْرِيحِ الْجِرَاحِ بِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا مُسْلِمُو هَذَا الزَّمَانِ وَلْيَعْلَمُوا مَا هُوَ مِقْدَارُ حَظِّهِمْ مِنَ الإسلام وَالْإِيمَانِ، وَأَمَّا مَحْقُ الْكَافِرِينَ بِالشَّدَائِدِ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ فَنَاؤُهُمْ وَهَلَاكُهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَأْسُ يَسْطُو عَلَيْهِمْ وَفَقْدُ الرَّجَاءِ يَذْهَبُ بِعَزَائِمِهِمْ لِعَدَمِ الإيمان الَّذِي يُثَبِّتُ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ فِي الشَّدَائِدِ حَتَّى يُذْهِبَ مَا كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ نُورِ الْفَضِيلَةِ فِي نُفُوسِهِمْ فَلَا تَبْقَى لَهُمْ شَجَاعَةٌ وَلَا بَأْسٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ فَيَكُونُ أَحَدُهُمْ كَالْهِلَالِ فِي الْمِحَاقِ لَا نُورَ لَهُ، بَلْ يَكُونُ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَذَلِكَ مَحْقُهُ إِذَا غُلِبَ عَلَى أَمْرِهِ، وَإِذَا هُوَ انْتَصَرَ طَغَى وَتَجَبَّرَ وَبَغَى وَظَلَمَ، وَذَلِكَ مَحْقٌ مَعْنَوِيٌّ تَكُونُ عَاقِبَتُهُ الْمَحْقُ الصُّورِيُّ، كَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لِلْكَافِرِينَ الْمُبْطِلِينَ وُجُودٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَإِنَّمَا يَبْقَوْنَ ظَاهِرِينَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ مَنْ يُنَازِعُهُمْ وَيُقَاوِمُ بَاطِلَهُمْ.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْخِطَابُ فِيهِ لِمَنْ شَهِدَ وَقْعَةَ أُحُدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ تعالى أَرْشَدَهُمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ إِلَى أنه لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَضْعُفُوا أَوْ يَحْزَنُوا، وَبَيَّنَ لَهُمْ حِكْمَةَ مَا أَصَابَهُمْ وَأَنَّهُ مُنْطَبِقٌ عَلَى سُنَّتِهِ فِي مُدَاوَلَةِ الْأَيَّامِ بَيْنَ النَّاسِ وَفِي تَمْحِيصِ أَهْلِ الْحَقِّ بِالشَّدَائِدِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَالتَّسْلِيَةِ مَا يُرَبِّي الْمُؤْمِنَ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْغَلَبَ وَالسِّيَادَةَ بِالْحَقِّ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ هَذَا أَنَّ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ لَا تُنَالُ أيضا إِلَّا بِالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ فَهِيَ كَسَعَادَةِ الدُّنْيَا بِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالسِّيَادَةِ فِي الْأَرْضِ سُنَّةُ اللهِ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ فَقَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَهَذِهِ الْآيَةُ كَالْآيَةِ (214) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمَعْنَى عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَاكَ مِنْ أَنَّ أم لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُجَرَّدِ أَوْ لِلْمُعَادَلَةِ أنه تعالى يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّنْبِيهِ وَالْإِرْشَادِ لِسُنَّتِهِ وَحُكْمِهِ فِيمَا حَصَلَ الْمُتَضَمِّنِ للِلَّوْمِ وَالْعِتَابِ فِي مِثْلِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَقوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} إِلَخْ. هَلْ جَرَيْتُمْ عَلَى تِلْكَ السُّنَنِ؟ هَلْ تَدَبَّرْتُمْ تِلْكَ الْحِكَمَ؟ أَمْ حَسِبْتُمْ كَمَا يَحْسَبُ أَهْلُ الْغُرُورِ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَأَنْتُمْ إِلَى الْآنِ لَمْ تَقُومُوا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ حَقَّ الْقِيَامِ وَلَمْ تَتَمَكَّنْ صِفَةُ الصَّبْرِ مِنْ نُفُوسِكُمْ تَمَامَ التَّمَكُّنِ! وَالْجَنَّةُ إِنَّمَا تُنَالُ بِهِمَا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى دُخُولِهَا بِدُونِهِمَا. لَوْ قُمْتُمْ بِذَلِكَ لَعَلِمَهُ تعالى مِنْكُمْ وَجَازَاكُمْ عَلَيْهِ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ فِي غَزْوَتِكُمْ هَذِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ آيَةً عَلَى أنه سَيُجَازِيكُمْ بِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الْمُخْتَارُ فِي مَعْنَى أم هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي {أَمْ حَسِبْتُمْ} أنه نَهْيٌ وَقَعَ بِحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَأْتِي لِلتَّبْكِيتِ، وَتَلْخِيصُهُ: لَا تَحْسَبُوا أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْكُمُ الْجِهَادُ، وَهُوَ كَقوله: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [29: 1، 2] وَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِذِكْرِ {أَمْ} الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ مَا تَأْتِي فِي كَلَامِهِمْ وَاقِعَةٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ يُشَكُّ فِي أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ، يَقُولُونَ: أَزَيْدًا ضَرَبْتَ أَمْ عَمْرًا؟ مَعَ تَيَقُّنِ وُقُوعِ الضَّرْبِ بِأَحَدِهِمَا. قَالَ: وَعَادَةُ الْعَرَبِ يَأْتُونَ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ تَوْكِيدًا، فَلَمَّا قَالَ: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا تُؤْمَرُونَ، أَمْ تَحْسَبُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ مُجَاهَدَةٍ وَصَبْرٍ؟ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
وَقَدْ جَرَيْنَا فِي هَذَا عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ هُنَا بِمَعْنَى نَفْيِ الْمَعْلُومِ، كَنَفْيِ اللَّازِمِ وَإِرَادَةِ الْمَلْزُومِ وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا مِنْ قُرْبٍ فِي تَفْسِيرِ: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْكَشَّافُ هُنَا وَقَالَ: هُوَ بِمَعْنَى لَمَّا تُجَاهِدُوا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْلُومِ فَنَزَلَ نَفْيُ الْعِلْمِ مَنْزِلَةَ نَفْيِ مُتَعَلِّقِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفٍ بِانْتِفَائِهِ. يَقُولُ الرَّجُلُ: مَا عَلِمَ اللهُ فِي فُلَانٍ خَيْرًا، يُرِيدُ مَا فِيهِ خَيْرٌ حَتَّى يَعْلَمَهُ. ولَمَّا بِمَعْنَى لَمْ إِلَّا أَنَّ فِيهَا ضَرْبًا مِنَ التَّوَقُّعِ فَدَلَّ عَلَى نَفْيِ الْجِهَادِ فِيمَا مَضَى وَعَلَى تَوَقُّعِهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ. وَتَقُولُ: وَعَدَنِي أَنْ يَفْعَلَ وَلَمَّا يَفْعَلْ. تُرِيدُ وَلَمْ يَفْعَلْ وَأَنَا أَتَوَقَّعُ فِعْلَهُ. اهـ.
وَقَدِ اعْتَرَضَهُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ حَقَّ الْفَهْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النُّكْتَةَ فِي إِيثَارِ ذِكْرِ الْعِلْمِ وَإِرَادَةِ الْمَعْلُومِ هِيَ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ الْعِلْمَ إِنَّمَا يَكُونُ عِلْمًا صَحِيحًا بِظُهُورِ مُتَعَلِّقِهِ بِالْفِعْلِ، وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ أُخْرَى فِي الْبَالِ وَهِيَ أَنَّ التَّعْبِيرَ عَنْ نَفْيِ ذَلِكَ بِنَفْيِ عِلْمِ اللهِ بِهِ عِبَارَةٌ عَنْ دَعْوَى مَقْرُونَةٍ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ اللَّذَيْنِ هُمَا وَسِيلَةٌ إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ لَمَّا يَقَعْ مِنْكُمْ، أَيْ لَمْ يَقَعْ إِلَى الْآنِ مِنْ مَجْمُوعِكُمْ أَوْ أَكْثَرِكُمْ بِحَيْثُ صَارَ يُعَدُّ مِنْ شَأْنِ الْأُمَّةِ، فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ وُقُوعَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُخَالِفُوا وَلَمْ يَنْهَزِمُوا، إِذْ لَوْ وَقَعَ لَعَلِمَهُ اللهُ تعالى الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا يَعْلَمْهُ فَهُوَ لَمْ يَتَحَقَّقْ قَطْعًا، وَيُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قوله تعالى فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مِثْلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} [2: 214] إِلَخْ.
أَيْ وَإِلَى الْآنِ لَمْ تَصِلُوا إِلَى حَالِهِمْ وَلَمْ يُصِبْكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، وَقَدْ كَانَتْ حَالُهُمْ تِلْكَ مَثَلًا فِي الشِّدَّةِ، وَوَجْهُ التَّأْيِيدِ أَنَّ الْمَنْفِيَّ هُنَاكَ هُوَ الْعَمَلُ وَالْحَالُ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَ بِهَا الْجَنَّةَ.
ثُمَّ إِنْ يُوَافِقْ أَحَدَ الْوُجُوهِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي تَفْسِيرِ قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا} مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُرَادَ بِالذَّوَاتِ وَصْفُهَا، فَالْمَعْنَى هُنَاكَ وَلِيَعْلَمَ اللهُ إِيمَانَ الَّذِينَ آمَنُوا- وَهُنَا- وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ جِهَادَ الَّذِينَ جَاهَدُوا وَصَبْرَ الصَّابِرِينَ، أَيْ وَاقِعَيْنِ ثَابِتَيْنِ، وَيَصِحُّ أيضا أن يكون الْعِلْمُ هُنَا بِمَعْنَى التَّمْيِيزِ- كَمَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ فِي وَجْهٍ آخَرَ- وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ جَمِيعًا وَلَمَّا يُمَيِّزِ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَالْجِهَادُ هُنَا أَعَمُّ مِنَ الْحَرْبِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ وَأَهْلِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: رُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّ الْآيَةَ تُفِيدُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُجَاهِدْ وَيَصْبِرْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، مَعَ أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَنَقُولُ: نَعَمْ، أنه لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَمْ يُجَاهِدْ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، وَلَكِنَّ الْجِهَادَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيِّ- وَهُوَ احْتِمَالُ الْمَشَقَّةِ فِي مُكَافَحَةِ الشَّدَائِدِ- وَمِنْهُ جِهَادُ النَّفْسِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، وَذَكَرَ مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مُجَاهَدَةَ الْإِنْسَانِ لِشَهَوَاتِهِ لاسيما فِي سِنِّ الشَّبَابِ، وَجِهَادَهُ بِمَالِهِ، وَمَا يُبْتَلَى بِهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ مُدَافَعَةِ الْبَاطِلِ وَنُصْرَةِ الْحَقِّ. وَقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ عَلَيْكَ وَلِلنَّاسِ عَلَيْكَ حَقًّا، وَأَدَاءُ هَذِهِ الْحُقُوقِ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ فَلابد مِنْ جِهَادِهَا لِيَسْهُلَ عَلَيْهَا أَدَاؤُهَا، وَرُبَّمَا يَفْضُلُ بَعْضُ جِهَادِ النَّفْسِ جِهَادَ الْأَعْدَاءِ فِي الْحَرْبِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُثَبِّتَ فَكُرَةً صَالِحَةً فِي النَّاسِ أَوْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى خَيْرِهِمْ مِنْ إِقَامَةِ سُنَّةٍ أَوْ مُقَاوَمَةِ بِدْعَةٍ أَوِ النُّهُوضِ بِمَصْلَحَةٍ فَإِنَّهُ يَجِدُ أَمَامَهُ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُقَاوِمُهُ وَيُؤْذِيهِ إِيذَاءً قَلَّمَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَنَاهِيكَ بِالتَّصَدِّي لِإِصْلَاحِ عَقَائِدِ الْعَامَّةِ وَعَادَاتِهِمْ، وَمَا الْخَاصَّةُ فِي ضَلَالِهِمْ إِلَّا أَصْعَبُ مِرَاسًا مِنَ الْعَامَّةِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ مَعْنَى أَمْ وَلَمَّا، وَمِنْهَا أَنَّ قوله: {وَيَعْلَمَ} مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ، كَقَوْلِهِمْ: لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ أَيْ لَا يَكُنْ أَكْلُ السَّمَكِ وَشُرْبُ اللَّبَنِ مَعًا، فَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذَا: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَالْحَالُ أنه لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْكُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ.
بَعْدَ مَا بَيَّنَ تعالى لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْفَوْزَ وَالظَّفَرَ فِي الدُّنْيَا وَدُخُولَ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ لَا يَكُونَانِ بِالْأَمَانِي وَالْغُرُورِ، وَلَا يُنَالَانِ بِالْمُحَابَاةِ وَالْكَيْلِ الْجُزَافِ، بَلْ بِالْجِهَادِ وَمُكَافَحَةِ الْأَيَّامِ وَمُصَابَرَةِ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ، وَاتِّبَاعِ سُنَنِ اللهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ- وَبَعْدَ مَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ دَعْوَى الإيمان وَدَعْوَى الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا الْجَزَاءُ بِالنَّصْرِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلَى تَحَقُّقِهِمَا بِحَسَبِ عِلْمِ اللهِ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ لَا بِحَسَبِ ظَنِّ النَّاسِ وَشُعُورِهِمْ- بَعْدَ هَذَا وَذَاكَ أَرْشَدَهُمْ إِلَى أَمْرٍ وَاقِعٍ يَظْهَرُ لَهُمْ بِهِ تَأْوِيلُ قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا} وَقوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} إِلَخْ. وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُعُورِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يُقَصِّرُوا فِي الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ فَيَتَعَلَّمُونَ كَيْفَ يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا يَغْتَرُّونَ بِشُعُورِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ فَقَالَ: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} الْخِطَابُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ شَهِدُوا وَقْعَةَ أُحُدٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَلْخِيصِ الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرَى أَلَا يَخْرُجَ لِلْمُشْرِكِينَ بَلْ يَسْتَعِدُّ لِمُدَافَعَتِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ جَمَاعَةٌ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ صَرَّحَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ زَعِيمُ الْمُنَافِقِينَ وَأَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ أَشَارُوا بِالْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ حَيْثُ عَسْكَرَ الْمُشْرِكُونَ وَمُنَاجَزَتَهُمْ هُنَاكَ، وَأَنَّ الشُّبَّانَ وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا كَانُوا يُلِحُّونَ فِي الْخُرُوجِ؛ لِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عِتَابٌ لِرِجَالٍ غَابُوا عَنْ بَدْرٍ فَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مِثْلَ يَوْمِ بَدْرٍ أَنْ يَلْقَوْهُ فَيُصِيبُوا مِنَ الْخَيْرِ وَالْأَجْرِ مِثْلَ مَا أَصَابَ أَهْلُ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَلَّى مِنْهُمْ مَنْ وَلَّى فَعَاتَبَهُمُ اللهُ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمُ الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أنه قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَقُولُونَ: لَئِنْ لَقِينَا الْعَدُوَّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَنَفْعَلَنَّ وَلَنَفْعَلَنَّ، فَابْتُلُوا بِذَلِكَ فَلَا وَاللهِ مَا كُلُّهُمْ صَدَقَ، فَأَنْزَلَ اللهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ فَأَطْلَقَ الْحَسَنُ وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا وَهُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ الْقِتَالَ كَثِيرُونَ.
قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَظْهَرَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ تَأْوِيلَ قوله تعالى فِي إِيمَانِهِمْ وَجِهَادِهِمْ وَصَبْرِهِمْ، وَعَلَّمَتْهُمْ كَيْفَ يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَمْتَحِنُونَ قُلُوبَهُمْ؛ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَمَنَّوُا الْقِتَالَ أَوِ الْمَوْتَ فِي الْقِتَالِ لِيَنَالُوا مَرْتَبَةَ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ لَهُمْ هَذَا التَّمَنِّيَ وَأَكَّدَهُ بِقوله: {وَلَقَدْ} فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ دَعْوَى قَوْلِيَّةً وَلَا صُورَةً فِي الذِّهْنِ خَيَالِيَّةً بَلْ كَانَ حَقِيقَةً وَاقِعَةً فِي النَّفْسِ وَلَكِنَّهَا زَالَتْ عِنْدَ مَجِيءِ دَوْرِ الْفِعْلِ، وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ مِنْ مَرَاتِبِ النَّفْسِ فِي شُعُورِهَا وَعِرْفَانِهَا هِيَ دُونَ مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ الَّذِي يُصَدِّقُهُ الْعَمَلُ، وَفَوْقَ مَرْتَبَةِ التَّصَوُّرِ وَالتَّخَيُّلِ مَعَ الِانْصِرَافِ عَنْ تَمَنِّي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ أَوْ مَعَ كَرَاهَتِهِ وَالْهَرَبِ مِنْهُ- كَمَا يَتَوَهَّمُ بَعْضُ النَّاسِ أنه يُحِبُّ مِلَّتَهُ وَوَطَنَهُ وَلَكِنَّهُ يَهْرُبُ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ يَخْشَى أَنْ يُطَالَبَ فِيهِ بِعَمَلٍ يَأْتِيهِ لِأَجْلِهِمَا أَوْ مَالٍ يُعَاوِنُ بِهِ الْعَامِلِينَ لَهُمَا، أَوْ يَكُونُ خَالِيَ الذِّهْنِ مِنَ الْفِكْرِ فِي الْعَمَلِ أَوِ الْبَذْلِ لِإِعْلَاءِ شَأْنِ هَذَا الْمَحْبُوبِ أَوْ كَفِّ الْعُدْوَانِ أَوِ الشَّرِّ عَنْهُ. فَهَاتَانِ مَرْتَبَتَانِ دُونَ مَرْتَبَةِ مَنْ يَتَصَوَّرُ أنه يُحِبُّ مِلَّتَهُ وَوَطَنَهُ وَيُفَكِّرُ فِي خِدْمَتِهِمَا وَيَتَمَنَّى لَوْ يُتَاحُ لَهُ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا احْتِيجَ إِلَى خِدْمَتِهِ الَّتِي كَانَ يُفَكِّرُ فِيهَا وَيَتَمَنَّاهَا وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ الضَّعْفَ فَأَعْرَضَ عَنِ الْعَمَلِ قَبْلَ الشُّرُوعِ أَوْ بَعْدَ أَنْ ذَاقَ مَرَارَتَهُ وَكَابَدَ مَشَقَّتَهُ، وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ فِي الإيمان مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، الْمَطْلُوبُ فِيهِ مَرْتَبَةُ الْيَقِينِ وَالْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ الَّتِي مِنْ مُقْتَضَاهَا الْعَمَلُ مَهْمَا كَانَ شَاقًّا، وَالْجِهَادُ مَهْمَا كَانَ عَسِرًا، وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَكَارِهِ وَإِيثَارُ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَلِيَعْلَمَ اللهُ وَتَفْسِيرِ: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ مِنَ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ أَمْثِلَةٌ تَزِيدُ الْمَبْحَثَ وُضُوحًا.
وَقَدْ كَانَ فِي مَجْمُوعِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ عِنْدَ نُزُولِهَا مَنْ هُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُجَاهِدُونَ الصَّابِرُونَ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَبَاتَ الْجِبَالِ لَا ثَبَاتَ الْأَبْطَالِ، وَهُمْ نَحْوُ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَسْمَاءَ بَعْضِهِمْ فِي تَلْخِيصِ الْقِصَّةِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْخِطَابُ عَامًّا لِيَكُونَ تَرْبِيَةً عَامَّةً؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ يَتَّهِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالتَّقْصِيرِ فَيَزْدَادُونَ كَمَالًا.
فَهَذِهِ الْآيَةُ تُنَبِّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ إِلَى الْغُرُورِ بِحَدِيثِ النَّفْسِ وَالتَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي، وَتَهْدِيهِ إِلَى امْتِحَانِ نَفْسِهِ بِالْعَمَلِ الشَّاقِّ، وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِمَا دُونَ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، حَتَّى يَأْمَنَ الدَّعْوَى الْخَادِعَةَ، بَلْهَ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ، وَإِنَّمَا الْخَادِعَةُ أَنْ تَدَّعِيَ مَا تَتَوَهَّمُ أنك صَادِقٌ فِيهِ مَعَ الْغَفْلَةِ أَوِ الْجَهْلِ بِعَجْزِكَ عَنْهُ، وَالْبَاطِلَةُ لَا تَخْفَى عَلَيْكَ، وَإِنَّمَا تَظُنُّ أَنَّهَا تَخْفَى عَلَى سِوَاكَ.
قَدْ أَشَرْنَا إِلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ هُوَ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتِ الْحَرْبُ لِأَنَّهَا سَبَبُهُ، وَعَدَّ بَعْضُهُمْ تَمَنِّيَ الشَّهَادَةِ الْمَأْثُورِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مُشْكِلًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ انْتِصَارَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَا إِشْكَالَ إِلَّا فِي مُخِّ مَنِ اخْتَرَعَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ، فَإِنَّ الَّذِي يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يُلْقِي بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَلَا يُقَصِّرُ فِي الدِّفَاعِ وَالصِّدَامِ حَتَّى يُقَالَ أنه مَكَّنَ الْأَعْدَاءَ مِنْهُ وَمَهَّدَ لَهُمْ سَبِيلَ الظَّفَرِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَقْوَى جِهَادًا وَأَشَدَّ جِلَادًا وَأَجْدَرَ بِأَنْ يَنْصُرَ قَوْمَهُ وَيَخْذُلَ مَنْ يُحَارِبُهُمْ، ثُمَّ أنه لَا يَقْصِدُ لَازِمَ الْمَوْتِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ نَقْصِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ ضَعْفِهِمْ؛ عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّازِمَ إِنَّمَا يَتْبَعُ اسْتِشْهَادَ الْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ، وَمَنْ يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ فَإِنَّمَا يَتَمَنَّاهَا لِنَفْسِهِ دُونَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْ قَوْمِهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ الَّذِي وَقَعَ لَيْسَ تَمَنِّيًا مُطْلَقًا وَإِنَّمَا هُوَ تَمَنِّي مَنْ يُقَاتِلُ لِنُصْرَةِ الْحَقِّ أَنْ تَذْهَبَ نَفْسُهُ دُونَهُ، فَإِذَا هُوَ وَصَلَ إِلَى مَا يَبْغِي مِنْ نُصْرَةِ الْحَقِّ وَإِعْزَازِهِ بأنهزَامِ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَخِذْلَانِهِمْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِلَّا فَضَّلَ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِ إِعْزَازِ الْحَقِّ وَرَآهُ خَيْرًا مِنَ الْبَقَاءِ مَعَ إِذْلَالِهِ وَغَلَبَةِ الْبَاطِلِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِمَنْ يَسْبِقُ لَهُمْ تَمَنِّي الْمَوْتِ بَعْدَ أَنْ فَاتَهُمْ حُضُورُ وَقْعَةِ بَدْرٍ أَوِ الشَّهَادَةُ فِيهَا لِبَعْضِ مَنْ حَضَرَهَا، ثُمَّ جَاءَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ انْكَسَرَتْ نَفْسُهُ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْعَةِ وَوَهَنَ عَزْمُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَهَنَ وَضَعُفَ بَعْدَهَا عِنْدَمَا نَدَبَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى اتِّبَاعِ الْمُشْرِكِينَ مَعَهُ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ. كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا سُبْحَانَ اللهِ لَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ تُلَاقُوا الْقَوْمَ فِي الْحَرْبِ، فَهَا أَنْتُمْ أُولَاءِ قَدْ رَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ لَا تَغْفُلُونَ عَنْهُ فَمَا بَالُكُمْ دَهِشْتُمْ عِنْدَمَا وَقَعَ الْمَوْتُ فِيكُمْ؟ وَمَا بَالُكُمْ تَحْزَنُونَ وَتَضْعُفُونَ عِنْدَ لِقَاءِ مَا كُنْتُمْ تُحِبُّونَ وَتَتَمَنَّوْنَ؟ وَمَنْ تَمَنَّى الشَّيْءَ وَسَعَى إِلَيْهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْزِنَهُ لِقَاؤُهُ وَيَسُوءَهُ فَقوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرَى الشَّيْءَ أَحْيَانًا وَلَكِنَّهُ لِانْشِغَالِهِ عَنْهُ رُبَّمَا لَا يَتَبَيَّنُهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُوهُ رُؤْيَةً كَانَ لَهَا الْأَثَرُ الثَّابِتُ فِي نُفُوسِكُمْ لَا رُؤْيَةً مِنْ قَبِيلِ لَمْحِ الشَّيْءِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَيْ أَبْصَرْتُمُوهُ وَأَنْتُمُ الْآنُ تَنْظُرُونَ وَتَتَأَمَّلُونَ فِيمَا رَأَيْتُمُوهُ وَتُفَكِّرُونَ فِي عَلَاقَتِهِ بِشُئُونِكُمْ، وَالَّذِي يَظْهَرُ هُوَ صِحَّةُ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَعْنِي أَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ.
أَقُولُ: وَقَدْ جَرَى صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ عَلَى أَنَّهَا حَالِيَّةٌ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: رَأَيْتُمُ الْمَوْتَ نَاظِرِينَ إِلَى وُقُوعِهِ بِكُمْ، وَاغْتِيَالِهِ لِإِخْوَانِكُمْ مُتَوَقِّعِينَ أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ، قَالَ جَمَاعَةٌ وَهُوَ تَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ وَإِلْحَاحِهِمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْخُرُوجِ إِلَى الْحَرْبِ، وَنَقُولُ: أنه تَذْكِيرٌ لِمَنِ انْهَزَمَ وَعَصَى مِنْهُمْ بِأَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ لَمْ يَكُنْ عَنْ رُسُوخٍ وَيَقِينٍ وَتَفْضِيلٍ لِلشَّهَادَةِ وَلِقَاءِ اللهِ عَلَى الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ شَائِبَةٌ مِنَ الْغُرُورِ وَالزَّهْوِ، وَإِرْشَادٌ تَوْبِيخِيٌّ لَهُمْ وَلِأمثالهِمْ إِلَى أَنْ يُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ وَيُطَالِبُوهَا بِالْكَمَالِ الَّذِي تَأْتِي فِيهِ الْأَعْمَالُ مُصَدِّقَةً لِخَوَاطِرِ النَّفْسِ وَتَمَنِّيَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. اهـ.